كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومثل الجمع بالواو والنون والألف والتاء مجيئهم في هذا الموضع بتكسير القلة، كقوله تعالى: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}.
وقول حسان:
وَأَسيافُنا يَقطُرنَ مِن نَجدَةٍ دَما

ولم يقل: عيونُهم ولا سيوفُنا. وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا الخصائص.
ومن ذلك قراءة يزيد بن القعقاع: {بما حَفِظَ اللهَ} بالنصب في اسم الله تعالى.
قال أبو الفتح: هو على حذف المضاف؛ أي: بما حفظ دين الله وشريعة الله وعهود الله، ومثله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} أي: دين الله وعهود الله وأولياء الله، وحَذْفُ المضاف في القرآن والشعر وفصيح الكلام في عدد الرمل سعة، وأستغفر الله. وربما حَذفت العرب المضاف بعد المضاف مكررًا؛ أُنسًا بالحال ودلالة على موضوع الكلام، كقوله عز وجل: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أي: من أثر حافر فرس الرسول. وقد ذكرنا في كتابنا ذلك هذا وغيره من كتبنا وكلامنا.
ومن ذلك قراءة الأعمش: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكْرَى} مضمومة السين، ساكنة الكاف من غير ألف. وقراءة إبراهيم: {وَأَنْتُمْ سَكْرَى}.
وفي قراءته أيضًا: {تُرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى}.
قال أبو الفتح: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن وكيع عن الدمشقي عن ابن قطرب عن قطرب في كتابه الكبير: أن قراءة أبي زرعة الشامي: {وتَرَى النَّاسَ سُكْرَى وَمَا هُمْ بِسُكْرى}.
وسألت أبا علي عن {سُكْرَى} فردد القول فيها، ثم استقر الأمر فيها بيننا على أنها صفة من هذا اللفظ والمعنى، بمنزلة حبلى مفردة كما ترى.
فأما {سَكْرَى} بفتح السين فيمن قرأ كذلك فيحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون جمع سكران؛ إلا أنه كُسِّر على فَعْلَى؛ إذ كان السكر علة تلحق العقل، فجرى ذلك مجرى قوله:
فَأَمَّا تَميمٌ تَميمُ بنُ مُرٍّ ** فَأَلفاهُمُ القَومُ رَوْبَى نِياما

فهذا جمع رائب؛ أي: نومى خُثَراءُ الأنفس؛ فيكون ذلك كقولهم: هالك وهلكى ومائد ومَيْدَى، فيجري مجرى صريع وصرعى وجريح وجرحى؛ إذ كان ذلك علة بُلوا بها، وإن كان هالك ومائد ورائب فعلًا منسوبًا إليهم، لا مُوقَعًا في اللفظ بهم.
والآخر: أن يكون {سَكْرَى} هنا صفة مفردة، مذكرها سكران، كامراة سكرى. ويشهد لهذا الأمر قراءة مَن قرأ: {سُكْرى} بالضم، وهذا لا يكون إلا واحدًا. ويشهد للقول الأول قراءة العامة: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}. وجاز أن يوقع على الناس كلهم صفة مفردة تصورًا لمعنى الجملة والجماعة وهي بلفظ الواحد، كما جاز للَبيدٍ أن يشير أيضًا إلى الناس بلفظ الواحد في قوله:
وَلَقَد سَئِمتُ مِنَ الحَياةِ وَطولِها ** وَسُؤالِ هَذا الناسِ كَيفَ لَبيدُ

ومن معكوسه في إيقاع لفظ الجماعة على معنى الواحد قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} والمراد به الواحد، كلٌّ من كلام العرب.
وقراءته: {وتُرَى الناسَ سُكرى} بضم التاء يقوي ما قدمناه من أن أُرَى في اليقين دون أَرى؛ لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود والزهري أيضًا: {أو جاء أحد منكم من غَيْط}.
قال أبو الفتح: فيه صنعة، وذلك أن هذا الحرف مما عينه واو؛ لقوهم تغوَّط الرجل: إذا أتى الغائط، وهو مُطْمَأَنٌّ من الأرض كانوا يقضون فيه حوائجهم. وظاهر أمر غَيْط أنه فَعْل مما عينه ياء، بمنزلة شيخ وبيت. وأمثل ما ينبغي أن يقال فيه: إنه محذوف من فَيْعِل، كأنه في الأصل غيِّط كميت وسيد، ثم حذفت عينه تخفيفًا فبقي مَيْت وسيْد، ومثاله قَيْل؛ لأن العين محذوفة.
فإن قلت: فإنا لا نعرف في الكلام غَيِّطًا كما عرفنا سيِّدًا وميِّتًا؟
قيل: قد يجوز أن يكون محذوفًا من فيعِل مقدرًا غير مستعمل، كما أن قولهم: يَذَر ويدع استُغني عنهما بِتَرَك، كما استُغني أيضًا بغائط عن غيِّط، وكما استغني أيضًا بذَكَر ولَمْحة عن مِذْكار ومَلْمَحة اللتين عليهما كسر ملامح ومذاكير.
ويؤكد هذا أن غائطًا إلى غيِّط أقرب من ذَكَر ولَمْحة إلى مِذْكار ومَلْمَحة؛ وذلك لأن ثاني فاعل ألف زائدة كما أن ثاني فيعِل ياء زائدة، والعين فيهما كليهما مكسورة، واللام تلي العين فيهما جميعًا، والياء أيضًا أخت الألف، فكأنهما مثال واحد من حيث ذكرنا، فَبِقدر هذا القرب بينهما ما حسنت إنابة فاعل عن فيعِل، لاسيما وكأن غَيْطًا في اللفظ غيِّط لقربه منه وزنًا.
وفيه قول ثانٍ؛ وهو أن يكون غَيْط فَعْلًا وأصله غَوْط، إلا أن الواو قلبت للتخفيف ياء، كما قلبوها إليها لذلك في قولهم: لا حَيْل ولا قوة إلا بالله؛ أي: لا حول ولا قوة إلا بالله. وقالوا: هو أَليط بقلبي من كذا، وظاهر أمره أن يكون من لُطت الحوض أَلوطه؛ أي: ألصقت بعضه ببعض، فكذلك هو أَليط بقلبي: إذا لصق به، وأصله على هذا أَلْوط، وقلبت الواو ياء استحسانًا كأشياء نحو ذلك، نحو: العلياء وهي من علوت، والعَيْصاء بمعنى العوصاء، فهذا الوجه أقرب، والأول أشد وأصنع. ومن ذلك قراءة حميد بن قيس: {سَوْفَ نَصْلِيهِمْ نَارًا}.
قال أبو الفتح: قد أتينا على ما في ذلك فيما مضى من هذا الكتاب آنفًا.
ومن ذلك قراءة الحسن فيما رواه عنه قتادة: {تعالُوا} بضم اللام.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أنه حذف اللام من تعاليت استحسانًا وتخفيفًا، فلما زالت اللام من تعالى ضُمت لام تعال لوقوع واو الجمع بعدها، كقولك: تقدموا وتأخروا.
ونظير ذلك في حذف اللام استخفافًا قولهم: ما باليت به بالةً، وأصلها بالِيَة، كالعافية والعاقبة، ثم حذفت اللام كما ترى.
وذهب الكسائي في {آية} إلى أن أصلها: آيِيَة فاعلة، فحذفت اللام كما ذكرنا، ولو كانت إنما حذفت لام {تعالُوا} لالتقاء الساكنين كما حذفت لذلك في قولك للجماعة آمرًا: ترامَوا وتغازَوا؛ لبقيت العين مفتوحة دلالة على الألف المحذوفة، وكنحو قولك: اخشَوا واسعَوا، إذا أمرت الجماعة.
ونظير حذف اللام استحسانًا في هذه القراة قراءة الحسن أيضًا في قوله الله تعالى: {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالُ الْجَحِيمِ}.
حدثنا بذلك أبو علي، وذهب إلى ما ذكرناه من حذف اللام استخفافًا، وإلى أنه يجوز أن يكون أراد: إلا من هو صالون الجحيم؛ فحذف النون للإضافة، وحذف الواو التي هي عَلَم الجمع لفظًا لالتقاء الساكين، واستعمل لفظ الجمع حملًا على المعنى دون اللفظ، كقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}، وله نظائر، إلا أن الظاهر ما ذهب إليه أبو علي.
وأما حديث تَعَالَ والقول على ماضيه ومضارعه وتصرفه، ومن أين جاز استعمال لفظ العلو في التقدم، فأَمْرٌ يحتاج إلى فضل قول، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، إلا أن من جملته أنهم استعملوا لفظ التقدم والارتفاع على طريق واحد، من ذلك قولهم: قدَّمته إلى الحاكم، فهذا كقولك: ترافعنا إلى الحاكم، كذلك قولك للرجل: تعال، كقولك له: تقدم. وأصله أن التقدم تعالٍ، والتأخر انخفاض وتراخٍ، فافهمه.
ومن ذلك قراءة الحسن أيضًا: {لَيَقولُن} بضم اللام على الجمع. قال عبد الوارث: سئل أبو عمرو عن قراءة الحسن: {لَيَقولُن} برفع اللام، فسكت.
قال أبو الفتح: أعاد الضمير على معنى مَنْ لا على لفظها الذي هو قراءة الجماعة؛ وذلك أن قول الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} لا يُعنى به رجل واحد؛ لكن معناه أن هناك جماعة هذا وصف كل واحد منهم، فلما كان جمعًا في المعنى أعيد الضمير على معناه دون لفظه، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ}، الحال فيهما واحدة، وكأن الموضع لحقه احتياط في اللفظ؛ خوفًا من إشكال معناه، فضُمَّ اللام من ليقولُن ليُعلم أن هذا حكم سارٍ في جماعة، ولا يُرى أنه واحد ولا أكثر منه، فاعرفه.
ومن ذلك قراءة الحسن ويزيد النحو: {يا لَيتَني كنْتُ معهم فأفوزُ فوزًا عظيمًا} بالرفع، قال روح: لم يجعل لليت جوابًا.
قال أبو الفتح: محصول ذلك أن يتمنى الفوز، فكأنه قال: يا ليتني أفوز فوزًا عظيمًا، ولو جعله جوابًا لنصبه؛ أي: إن أكن معهم أفز، هذا إذا أصبحت بالشرط، إلا أن الفاء إن دخلت جوابًا للتمني نُصب الفعل بعدها بإضمار أن، وعُطف أفوز على كنت معهم لأنهما جميعًا متمنيان، إلا أنه عطف جملة على جملة لا الفعل على انفراده على الفعل؛ إذ كان الأول ماضيًا والثاني مستقبلًا.
وذهب أبو الحسن في قوله عز وجل: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالرفع إلى أنه عطف عل اللفظ، ومعناه معنى الجواب: قال: لأنهم لم يتمنوا ألا يكذبوا؛ وإنما تمنوا الرد، وضَمِنوا أنهم إن رُدوا لم يكذِّبوا، وعليه جاء قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}. وعليه قول الآخر:
فَلَقَد تَرَكتِ صِبيَّةً مَرحومَة ** لَم تَدرِ ما جَزَعٌ عَلَيك فَتَجزَعُ

والقوافي مرفوعة؛ أي: هي تجزع، ولو كان جوابًا لقال فتجزعا، وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا الموسوم بالتنبيه، وهو تفسير مشكل أبيات الحماسة.
ومن ذلك قراءة طلحة بن سليمان: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} برفع الكافين، قال ابن مجاهد: وهذا مردود في العربية.
قال أبو الفتح: هو لعمري ضعيف في العربية، وبابه الشعر والضرورة، إلا أنه ليس بمردود؛ لأنه قد جاء عنهم. ولو قال: مردود في القرآن لكان أصح معنى؛ وذلك أنه على حذف الفاء، كأنه قال: فيدركُكُم الموت، ومثله بيت الكتاب:
مَن يَفعَلِ الحَسَناتِ اللهُ يَشكُرُها ** وَالشَرُّ بِالشَرِّ عِندَ اللهِ مِثلانِ

أي: فالله يشكرها، ومثله بيته أيضًا:
بنو ثُعل لا تنكَعوا العنز شِرْبَها ** بني ثعل من ينكَع العنزَ ظالِم

فكأنه قال: فهو ظالم، فحذف الفاء والمبتدأ جميعًا، إلا أنه لما ترك هناك اسم الفاعل فهو لشبهه بالفعل كأنه هو الفعل؛ فيصير إلى أنه كأنه قال: من ينكع العنز يَظْلِمُ، وشَبَهُ الفعل في هذه اللغة أفشى من الشمس، حتى إنهم استجازوا لذلك أن يُولُوه نون التوكيد المختصة بالفعل، فقالوا:
أَريتَ إن جئتُ به أُملودا ** مُرَجَّلا ويَلبس البُرودا

أَقائِلُن أَحضِرِي الشهودا

فكأنه قال: أيقولن، والنظائر فيه كثيرة جدًّا.
ومن ذلك قراءة ابن مسعود: {إِلَى الْفِتْنَةِ رُكِّسُوا فِيهَا} مثقل بغير ألف.
قال أبو الفتح: وجه ذلك أنه شيء بعد شيء؛ وذلك لأنهم جماعة، فلما كانوا كذلك وقع شيء منه بعد شيء فطال، فلاق به لفظ التكثير والتكرير، كقولك: غلَّقتُ الأبواب، وقطَّعتُ الحبال، وقد يكون معنى التكرير مع لفظ التخفيف، أنشد أبو الحسن:
أنت الفداء لقبلة هدَّمْتَها ** ونَقَرتها بيديك كلَّ مُنَقَّر

فصار ونقرتها كأنه قال: ونقَّرتها، يدل عليه مصدره الذي هو مُنَقَّر. وهذا ونحوه مما يدل على اشتمال لفظ الأفعال على معاني الأجناس، حتى إن اللفظة الواحدة تصلح لكثيره صلاحها لقليله.
ومن ذلك قراءة الزهري فيما رواه عنه الوقاصي: إلا خَطًا مقصورًا خفيفًا بغير همز.
قال أبو الفتح: أصله خطأً بوزن خَطَعًا كقراءة العامة، غير أنه حذف الهمزة حذفًا على ما حكيناه عنهم من قولهم: جَا يجَى، وسَا يسُو. وهذا ضعيف عند أصحابنا وإن كان قد جاء منه حروف صالحة، إلا أنه ليس تخفيفًا قياسيًّا؛ وإنما هو حذف وخبط للهمزة ألبتة، وقد ذكرناه فيما قبل. ويجوز أن يكون أبدل الهمزة إبدالًا على حد قَرَبْتُ، فجرى مجرى عصا ومطا.